الوظيفة الثالثة: أن لا يتكبر على العلم ولا يتأمر على معلم بل يلقى إليه زمام أمره بالكلية في كل تفصيل ويذعن لنصيحته إذعان المريض الجاهل للطبيب المشفق الحاذق وينبغي أن يتواضع لمعلمه ويطلب الثواب والشرف بخدمته قال الشعبي: صلى زيد بن ثابت على جنازة فقربت إليه بغلته ليركبها فجاء ابن عباس فأخذ بركابه فقال: زيد خل عنه يا ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال ابن عباس: (( هكذا أمرنا أن نفعل بالعلماء والكبراء))، فقبل زيد بن ثابت يده وقال: ((هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبينا صلى الله عليه وسلم))[132]. وقال صلى الله عليه وسلم: ((ليس من أخلاق المؤمن التملق إلا في طلب العلم))[133]. فلا ينبغي لطالب العلم أن يتكبر على المعلم ومن تكبره على المعلم أن يستنكف عن الاستفادة إلا من المرموقين المشهورين وهو عين الحماقة فإن العلم سبب النجاة والسعادة ومن يطلب مهربا من سبع ضار يفترسه لم يفرق بين أن يرشده إلى الهرب مشهور أو خامل وضراوة سباع النار بالجهال بالله تعالى أشد من ضراوة كل سبع فالحكمة ضالة المؤمن يغتنمها حيث يظفر بها ويتقلد المنة لمن ساقها إليه كائنا من كان فلذلك قيل العلم حرب للفتى المتعالي كالسيل حرب للمكان العالي فلا ينال العلم إلا بالتواضع وإلقاء السمع قال الله تعالى: إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد (ق:37). ومعنى كونه ذا قلب أن يكون قابلا للعلم فهما ثم لا تعينه القدرة على الفهم حتى يلقى السمع وهو شهيد حاضر القلب ليستقيل كل ما ألقى إليه بحسن الإصغاء والضراعة والشكر والفرح وقبول المنة فليكن المتعلم لمعلمه كأرض دمثة نالت مطرا غزيرا فتشربت جميع أجزائها وأذعنت بالكلية لقبوله ومهما أشار عليه المعلم بطريق في التعلم فليقلده وليدع رأيه فإن خطأ مرشده أنفع له من صوابه في نفسه إذ التجربة تطلع على دقائق يستغرب سماعها مع أنه يعظم نفعها فكم من مريض محرور يعالجه الطبيب في بعض أوقاته بالحرارة ليزيد في قوته إلى حد يحتمل صدمة العلاج فيعجب منه من لا خبرة له به وقد نبه الله تعالى بقصة الخضر وموسى عليهما السلام حيث قال الخضر: إنك لن تستطيع معي صبرا وكيف تصبر على ما لم تحط به خبرا (الكهف: 67 و68). ثم شرط عليه السكوت والتسليم فقال: فإن اتبعتني فلا تسألني عن شيء حتى أحدث لك منه ذكرا (الكهف: 70). ثم لم يصبر ولم يزل في مراودته إلى أن كان ذلك سبب الفراق بينهما وبالجملة كل متعلم استبقى لنفسه رأيا واختيارا دون اختيار المعلم فاحكم عليه بالإخفاق والخسران فإن قلت فقد قال الله تعالى: فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون (النحل: 43). فالسؤال مأمور به فاعلم أنه كذلك ولكن فيما يأذن المعلم في السؤال عنه فإن السؤال عما لم تبلغ مرتبتك إلى فهمه مذموم ولذلك منع الخضر موسى عليه السلام من السؤال أي دع السؤال قبل أوانه فالمعلم أعلم بما أنت أهل له وبأوان الكشف وما لم يدخل أوان الكشف في كل درجة من مراقي الدرجات لا يدخل أوان السؤال عنه وقد قال علي رضي الله عنه: (إن من حق العالم أن لا تكثر عليه بالسؤال، ولا تعنته في الجواب، ولا تلح عليه إذا كسل، ولا تأخذ بثوبه إذا نهض، ولا تفشي له سرا، ولا تغتابن أحدا عنده، ولا تطلبن عثرته، وإن زل قبلت معذرته، وعليك أن توقره وتعظمه لله تعالى ما دام يحفظ أمر الله تعالى، ولا تجلس أمامه، وإن كانت له حاجة سبقت القوم إلى خدمته).